إبراهيم عبد العزيز المغربيخاص ينابيع تربوية الله أكبر كانت رؤية العاصمة حلماً ذهبياً بالنسبة له . لم
يخرج من القرية إلا مرات معدودة ؛ كانت لأقرب مدينة ، والتي لا تبعد سوى
القليل من الكيلوات ، ولم يكن يحلم بذلك اليوم الذي يُخـبر فيه أنه قد رشح
للكلية بالقاهرة .
الأيام
الأولى وقبل بدأ الدراسة ، خرج من سكنه مع صديقه إبراهيم والذي يعرف
القاهرة جيدا من كثرة تردده عليها فخاله يسكن حيا من أحياء جنوبها .
أخذهم التجوال بأحياء القاهرة القديمة .
إلى أن وصلا حي البساتين بمبانيه القديمة .
كان شعوره يفيض مهابة ، ورجلاه تخطوان الخطوات الأولى حين اقترابهما من مبني (
جامع الإمام الشافعي ) العريق في جذور تاريخ القاهرة .
تناولت
يده اليسرى طرف ثيابه حتى لا تتعثر أقدامه بعتبة الجامع العالية ، تأبط
نعليه ، ولم يستطع نظره أن يحيط بما حوله من مشاهد أبهرته عند تأملها .
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]المباني ـ مع قدمها ـ شاهقة . الجدار برسومه وخطوطه الدقيقة ، العريقة .
التي لم يشاهد مثلها في سالف أيامه .
كانت نظراته يملؤها العجب مما يرى ، وكأنه في حلم .
ظل يقلب نظره في زوايا الجامع ، نسي أن صديقه إبراهيم يرافقه .
كان يستمتع بغرز أصابع قدميه بالسجاد الذي يفرش أرض الجامع ، وطبقاته الناعمة , وشُغل عقله ثواني :
كم يساوي هذا السجاد الفاخر ؟ ومن دفع ثمنه كله !! يااااه ! . . . استدار استدارة كاملة ولم يشعر بصديقه لأنه ظهر وكأنه يعد أعمدة المسجد الكبيرة ، الكثيرة ، الضخمة .
تعثرت
قدماه في حمالة المصاحف الخشبية ، أيقظه ذلك ، لينتقل بذاكرته للزاوية
الصغيرة بقريته ، والتي كان يصلي فيها مع شباب القرية وشيوخها الكبار ،
والتي تطل على الترعة الصغيرة .
تذكر يوم أن تهدم بيت الشيخ صالح فتبرع ببعض الأحجار ليتم بها ترميم (
السلالم) التي تربط الزاوية بالترعة و يصلون بها إلى حافة الترعة للوضوء ، وتذكر
يوم اشتد المطر واضطرهم إلى تبرع كل بيت من القرية بما يستطيع لشراء أخشاب
وبعض الجريد لتكون سقفاً يحميهم عند الصلاة من بلل المطر في الشتاء ،
والمروحة الجميلة التي أحضرها الأستاذ سيد للزاوية عند ما رجع من الإعارة
.
تذكر اجتماع رجال القرية وهم يفرشون الزاوية بالحصير الجديد قبل سفره بعشرة أيام ؛ حيث يجتمعون لتجديده كل ثلاثة أو أربعة أعوام .
وتذكر فرحتهم يوم رجوع ,, أبو أنس ,, من السعودية وقد أحضر للزاوية سجادة متوسطة الحجم .
وكم كانت فرحتهم برسومات الكعبة ، والمسجد النبوي عليها . وظل
الجميع يهنئون بعضهم بها حتى أخروا وقت الصلاة قليلاً إلى انتهاء الحديث
عنها، و كم كانت فرحة الحاج صالح كثيراً بها ، فهو إمام الزاوية .
وقد ظل يحكي عنها وعن مصليات الحجاز وروعتها .
ياااااااه .
ذكريات لم يخرج منها إلا عندما شده صديقه إبراهيم ، وناداه بصوت عال : إيه . إيــه . أين أنت الآن ؟ كم مرة أناديك ، ولا تجيب .
لم يرد عليه حيث لم يستجمع يقظته بكاملها إلى الآن .
مشى إبراهيم شمال المسجد , ومشى هو خلفه وكأنه ذاهل مما يراه .
تتابعت خطواتهما .
اقتربا من غرفة واسعة ، يطل بابها على داخل المسجد وقريب من بابها لمح قبة كبيرة .
وقبل أن يسأل صديقه إبراهيم عن القبة لمح عليها قماشاً أخضر .
وقبل تحرك لسانه بالحديث سمع صوتاً عالـيًا ؛ صراخا ، اقترب بنظره بسرعة .
لكن
ارتفاع الصوت شده للخلف ، هيبة المسجد ، ارتفاع الصوت ، امرأة ؟ بشعرها ا
لمكشوف المتدلي على أكتافها بطوله الملحوظ ، يرتفع صوتها بالبكاء . لماذا ؟ أين ؟ ماذا تمسك بيدها ؟ إنها ,, طرحتها ,, التي كانت تغطي بها شعرها .
إنها تكنس بها الأرض .
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]لم
يستطع أن يفهم ما يراه ، التمتمة مع ارتفاع حدة البكاء : انطـــق ،
عرفــني وكأنه حلم مزعج وقف لسانه مشدوهـاً لم يتحرك إلا بصعوبة كصعوبة
فهمه لما يدور حوله .
وما استطاع النطق إلا بكلمات فهمها صديقه بعد فترة .
ما هذا ؟؟ رد صديقه إبراهيم وقد وعى سبب ما يدور بخاطره .
وأراد أن يزيل حيرته قائلاً: إنها تشكو لصاحب الضريح سرقة شقتها ، وهي غاضبة لتكرر شكواها ، ولم يجبها ، ولم تعرف السارق .
سحبه إبراهيم من يده حتى وصلا إلى ,, حنفيات ,, الماء .
فتح الحنفية بشدة تنبئ عن عصبية ، نزل الماء يتدفق .
تلقاه براحتيه ، ملأهما .
غمر به وجهه عدة مرات .
لم يشعر أنه أفاق رغم أنه كرر عدة مرات .
وضع رأسه تحت الماء طويلاً . لم يفق إلا على صوت المؤذن : الله أكبر ، الله أكبر